الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***
951- ذكر فيه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((والذي نفسي بيده لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل)) فكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد بالله قال أبو عمر في هذا الحديث إباحة اليمين بالله على كل ما يعتقده المرء مما يحتاج فيه إلى يمين ومما لا يحتاج إلى ذلك ليس بذلك بأس على كل حال بل فيه تأس بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان كثيرا يقول في كلامه ((لا والذي نفس محمد بيده لا ومقلب القلوب)) وذلك لأن في اليمين بالله تعالى توحيدا وتعظيما وإنما يكره الحنث وتعمده. وأما قول أبي هريرة ثلاثا ((أشهد بالله)) فإنما ذلك لتطمئن نفس سامعه إليه ويعلم أنه لا يشك فيما حدثه به وفيه إباحة تمني الخير والفضل من رحمة الله بما يمكن وما لا يمكن لأن فيه إظهار المحبة في الخير والرغبة فيه والآجر يقع على قدر النية فدليل قوله عليه السلام في الذي تجهز من أصحابه بالغزو ومات قبل أن يخرج أن الله - عز وجل - قد أوقع أجره على قدر نيته ومعنى الحديث الذي من أجله ورد فضل الجهاد وفضل القتال في سبيل الله وفضائل الشهداء والشهادة كثيرة جدا حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا علي بن المبارك عن محمد بن أبي كثير بن عامر العقيلي عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد ورجل عفيف ضعيف ذو عيال وعبد أحسن عبادة ربه وأدى حق مواليه وأول ثلاثة يدخلون النار أمير تسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حقه وفقير فجور)). 952- وفي هذا الباب أيضا عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد)). قال أبو عمر معنى هذا الحديث عند العلماء أن قاتل الأول كان كافرا وتوبته المذكورة في هذا الحديث إسلامه قال الله عز وجل ((قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)) الأنفال وفيه دليل أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة - إن شاء الله - وكل من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في الجنة)). وأما قوله ((يضحك الله إليه)) أي يتلقاه الله - عز وجل - بالرحمة والرضوان والعفو والغفران ولفظ الضحك ها هنا مجازا لأن الضحك لا يكون من الله - عز وجل - على ما هو من البشر لأنه ليس كمثله شيء ولا تشبهه الأشياء. 953- وذكر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((والذي نفسي بيده لا يكلم (1) أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح المسك)). قال أبو عمر في هذا الحديث فضل الغزو والثبوت عند لقاء العدو وقوله لا يكلم أحد معناه لا يجرح والكلوم الجراح عند العرب وقوله ((يثعب دما)) فمعناه يتفجر دما وقوله في سبيل الله فمعناه الجهاد وملاقاه أهل الحرب من الكفار على هذا خرج الحديث ويدخل فيه بالمعنى كل من جرح في سبيل بر وحق مما أباحه الله كقتال أهل البغي والخوارج وغيرهم واللصوص والمحاربين أو آمر بمعروف أو ناه عن منكر ألا ترى قوله - عليه السلام ((من قتل دون ماله فهو شهيد)). وأما قوله عليه السلام - ((والله أعلم بمن يكلم في سبيله)) فإنه يدل على أنه ليس كل من خرج في الغزو تكون هذه حاله حتى تصح له نية ويعلم الله تعالى من قلبه أنه يريد وجهه ومرضاته ولم يخرج رياء ولا مباهاة ولا سمعة ولا فخرا ولا ابتغاء دنيا يقصدها وفي هذا الحديث دليل على أن الشهيد يبعث على حاله التي قبض عليها وهيئته بدليل هذا الحديث ومثله حديث بن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تخمروا وجهه ولا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي)) وقد زعم بعض أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم ((يبعث الميت في ثيابه التي قبض فيها)) أي يعاد خلق ثيابه له كما يعاد خلقه وقال غيره إنما ذلك قول خرج على المجاز فكنى بالثياب عن الأعمال والثياب كما يقال طاهر الثوب ونقي الجيب قال أبو عمر وحمل هذا الحديث على المجاز مروي من حديث بن عباس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يحشر الناس عراة غرلا وأول من يكسى إبراهيم)) فعلى هذا يحتمل أن يبعث على ما مات عليه من كفر وإيمان وشك وإخلاص ونحو ذلك والحقيقة في كل ما يحتملها اللفظ من الكتاب والسنة أولى من المجاز لأن الذي يعيده خلقا سويا يعيد ثيابه - إن شاء وإن كان قد روي بالوجه الآخر خبر ذكره أبو داود في باب من يغزو ويلتمس الدنيا بإسناده عن عبد الله بن عمرو أنه قال يا رسول الله ! أخبرني عن الجهاد والغزو فقال ((يا عبد الله بن عمرو إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا يا عبد الله بن عمرو على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله تيك الحال)) وقد استدل قوم من الفقهاء الذين يذهبون إلى أن لا عمل على الشهيد المقتول في المعركة وغيرها بهذا الحديث وجائز أن يحتج به من خص قتل الكفار في المعركة. 954- وذكر مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول اللهم لا تجعل قتلي بيد رجل صلى لك سجدة واحدة يحاجني بها عندك يوم القيامة قال أبو عمر في سماع بن القاسم سئل مالك عن قول عمر هذا قال يريد بذلك أنه ليس لغير الإسلام حجة عند الله تعالى قال أبو عمر معنى قول مالك الذي فسر به قول عمر - رضي الله عنه - عندي والله أعلم - أن عمر أراد أن لا يكون قتله بيد مؤمن لا يخلد في نار جهنم لأن المؤمن تكون له حجة بتوحيده وصلاته وسجوده يخرج بذلك من النار قاتله بعد أن يناله منها مقدار ذنبه فأراد أن يكون قاتله مخلدا في النار وهذا لا يكون إلا فيمن لم يكن يسجد لله سجدة ولم يعمل من الخير والإيمان مثقال ذرة وقد يحتمل أن يكون قوله ((يحاجني بها عندك يوم القيامة)) أن يقتله من تأول في قتله تأويلا سابقا في ظاهر القران أو السنة وإن كان فيه عند الله مبطلا أو مخطئا فيخفف عنه بذلك. وأما الكافر فلا يقام له يوم القيامة وزنا ولا تسمع منه حجة لأن حجته داحضة ولا تأويل إلا لمؤمن موحد والله أعلم. 955- وذكر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نعم)) فلما أدبر الرجل ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( كيف قلت)) فأعاد عليه قوله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل)) هكذا روى الحديث يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد وتابعه على ذلك جمهور الرواة للموطأ ورواه معن بن عيسى والقعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد لم يذكرا يحيى بن سعيد فالله أعلم وقد رواه بن أبي ذئب والليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقد ذكرناهما في ((التمهيد)) ورواية يحيى بن سعيد لهذا الحديث عن يحيى بن سعيد موجودة كما قال مالك حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ! إن قتلت في سبيل الله كفر الله به خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله به خطاياك إلا الدين كذلك قال لي جبريل)). قال أبو عمر جعل يزيد بن هارون الصبر والاحتساب والإقبال من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم شرطا لتكفير الذنوب والخطايا وكذلك ذلك في رواية بن أبي ذئب والليث وقد يحتمل معنى رواية مالك أيضا وفي هذا الحديث أن القتل في سبيل الله على الشرط المذكور لا تكفر به تبعات الآدميين -والله أعلم- وإنما يكفر ما بين العبد وبين ربه من كبيرة وصغيرة لأنه لم يستثن فيه خطيئة صغيرة ولا كبيرة إلا الدين الذي هو من حقوق بني آدم ويشهد لذلك حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا يدخل أحد من أهل الجنة الجنة وأحد من أهل النار يتبعه بمظلمة ولا يدخل أحد من أهل النار النار وأحد من أهل الجنة يتبعه بمظلمة)). قال قلنا يا رسول الله ! وكيف وإنما نأتي الله (عز وجل) حفاة عراة غرلا قال ((بالحسنات والسيئات)) وقد ذكرنا هذا الخبر بإسناده في ((التمهيد)) روى مالك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته وطرح عليه)) وروى سفيان بن عيينة عن سعد عن عمرو بن مرة قال سمعت الشعبي يقول حدثنا الربيع بن خثيم وكان من معادن الصرف قال إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضيا له منكم في الدنيا فيجلس لهم فيأخذونه فيقول يا رب ! ألست قد أتيت حافيا عاريا فيقول خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن لهم حسنات يقول زيدوا على سيئاته من سيئاتهم وقد ذكرنا في ((التمهيد)) أحاديث كثيرة صحاحا فيها التشديد في الدين منها حديث سعد بن الأطول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ((إن أخاك محتبس في دينه فاقض عنه)) ومنها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((نفس المؤمن معلقة بدينه)) أو قال ((ما كان عليه دين حتى يقضى عنه)) ومنها حديث محمد بن جحش قال كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع الجنائز مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه ثم نكسه ثم وضع راحته على جبهته وقال سبحان الله ! ماذا نزل في التشديد في الدين ومنها حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((صاحب الدين مأسور يوم القيامة في الدين)) وفي هذا الحديث من الفقه أن قضاء الدين عن الميت بعده في الدنيا ينفعه في آخرته ولذلك أمر وليه بالقضاء عنه ولا ميراث إلا بعد قضاء الدين وفي حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الصلاة على رجل ترك عليه دينا دينارين لم يدع لهما وفاء فلما ضمنهما أبو قتادة صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا الخبر بذلك كله عن أبي قتادة بإسناده في ((التمهيد)) وهذا كله كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات في ارض العرب وقبل أن تترادف عليه الزكوات فلما كان ذلك أنزل الله عليه سورة براءة وفيها للغارمين سهم وأنزل آية الفيء وفيها حقوق للمساكين وبن السبيل والأ نصار والمهاجرين والذين جاؤوا من بعدهم إذا كانوا لمن سبقهم بالإيمان مستغفرين فلما نزل ذلك كله في آية الفيء وآية قسم الصدقات للفقراء والغارمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو عيالا فعلي)) فكل من مات وقد أدان دينا في مباح ولم يقدر على أدائه فعلى الإمام أن يؤدي ذلك عنه من سهم الغارمين أو من الصدقات كلها لأن من وضعها في صنف واحد عند أكثر العلماء أجزأه على ما قد أوضحناه في كتاب الزكاة وعلى الإمام أن يؤدي دين من وصفنا حاله من الفيء الحلال للغني والفقير واجب على كل ذي دين أن يوصي به ولا يبيتن ليلتين دون أن تكون الوصية مكتوبة لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت وقد أجمع العلماء فيمن عليه دين أن الوصية عليه به واجبة إذا لم يؤده قبل والأفضل أن يؤدي دينه في حياته فإذا أوصى به وترك ما يؤدي منه ذلك الدين فليس بمحبوس عن الجنة إن شاء الله وكذلك إذا أوصى به ولم يكن عنده ما يؤدى منه ولا قدر على أدائه في حياته فعلى الإمام أن يؤدي عنه دينه كما وصفنا إذ الأخير المسؤول عنه أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث قال حدثنا عقيل عن بن شهاب قال أخبرني أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المسلمين وترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته)) وروى المقدام بن معدي كرب عن النبي عليه السلام مثله وقد ذكرناه في ((التمهيد)). أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو المتوكل العسقلاني قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على أحد مات وعليه دين فأتي بميت فقال ((أعليه دين)). قالوا نعم ديناران فقال ((صلوا على صاحبكم)). قال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله على رسوله قال ((أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلي قضاؤه)). قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم ((من توفي من المسلمين وعليه دين فعلي قضاؤه يحتمل أن يكون أراد إذا لم يترك مالا يؤدى منه وظاهر الحديث يوجب عمومه كل دين مات عنه المسلم ولم يؤده في حياته والمعنى في ذلك -والله أعلم- أن الميت المسلم كان وجبت له حقوق في بيت المال من الفيء وغيره لم تصل إليه فتوجب على الإمام أن يؤدي ذلك الدين عنه كما لو كان للميت دين على غيره من المسلمين أو الذميين جاز أن يؤخذ دينه الذي له فيؤدي منه ما عليه من الدين ويخلص ماله لورثته فإن لم يفعل الغريم ذلك أو السلطان رفع القصاص بينهم في الآخرة ولم يحبس عن الجنة بدين له مثله على غيره في بيت المال أو على غريم جحد ولم يثبت الدين عليه في القضاء أو أن غريمه لم يعلم به أو لم يصل إليه أو دين أقر به لوارث في مرضه فلم يجز القاضي إقراره وكان صادقا فيه محقا فهذا كله وما كان مثله لا يحبس به صاحب الدين عن الجنة إذا كان ممن يستحقها بثواب الله على عمله إلا أن يكون ما عليه من الدين أكثر مما له في بيت المال أن على الغريم ولم تف بذلك حسناته فالقصاص منه ومعلوم أن حق المسلم في بيت المال وإن لم يتعين عنده مال من ماله يعلمه الذي أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما يأخذه له ممن ظلمه فيه يوم لا دينار فيه ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ومحال أن يحبس عن الجنة ما بقي ما عليه من الدين عند سلطان أو غيره ممن لم يقدر على الانتصاب في الدنيا منه وقول السلطان دين هذا علي وماله لورثته كقول غريم لو كان له فقال ما على هذا البيت من الدين فعلي أداءه مما له علي وما يخلفه لورثته وهذا لا مشكل على أحد إن شاء الله وفي هذا الحديث أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بما يتلى من القرآن وبغيره من الحكمة والعلم والسنة وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع والحمد لله. 956- قال أبو عمر وفي هذا الباب مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لشهداء أحد ((هؤلاء أشهد عليهم)) فقال أبو بكر الصديق ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي)) فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال أئنا لكائنون بعدك قال أبو عمر هذا حديث منقطع لم يختلف عن مالك في انقطاعه وقد روي معناه مسندا متصلا من وجوه من حديث عقبة بن عامر وحديث جابر وحديث أنس وغيره منها حديث الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال ((أنا فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض وإني - والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)) ذكره البخاري قال حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا الليث فذكره قوله صلى الله عليه وسلم ((لشهداء أحد هؤلاء أشهد عليهم)) يقول ((أنا شهيد لهم)) وقد تكون بمعنى لهم في لسان العرب ويكون لهم بما عليهم أيضا يقول أنا شهيد لهم بأنهم صدقوا بما عاهدوا الله عليه من الإيمان والجهاد في سبيله وطاعته وطاعة رسوله حتى ماتوا على ذلك ومن كانت هذه حالته فقد وعده الله الجنة والله لا يخلف الميعاد فهذه شهادة لهم قاطعة بالجنة ويعضد هذا قول الله تعالى في الشهداء أنهم (أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران 69 وفي شهداء أحد نزلت هذه الآية والشهادة لهم بالجنة ما لا خلاف ولا شيء في معانيه لأنهم ماتوا ذابين عن دين الله وعن رسوله بهذه الحالة هي النهاية في الفصل مع السلامة من التبديل والتغيير وموبقات الذنوب التي أكثر أسبابها الإفراط في حب الدنيا والمنافسة فيها ولشهداء أحد عندنا كل من مات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا في غزوة غزاها أو سرية بعثها وكذلك من مات على فراشه في عصارة إيمانه كعثمان بن مظعون وغيره ممن لم يتلبس من الدنيا بما يدنسه. وأما قوله في حديث مالك ((بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي)) فإن الخطاب توجه إلى أبي بكر الصديق ومن كان معه والمراد به أصحابه وكل من آمن به من الكائنين بعده إلا أن أهل بدر والحديبية من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فقال ((لن يلج النار أحد شهد بدرا والحديبية)) كما شهد للشهداء الذين استشهدوا بين يديه صلى الله عليه وسلم وقال ((أنا شهيد لهؤلاء)) وقد ذهب قوم من جلة العلماء إلى القطع أن من مات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء مثل حمزة وجعفر ومصعب بن عمير وسعد بن معاذ ومن جرى مجراهم ممن موتهم قبله وصلى عليهم وشهد بالجنة لهم أفضل ممن بقي بعده من أصحابه الذين قال فيهم ((ألا لا أدري ما تحدثون بعدي وخاف عليهم من الفتنة والميل إلى الدنيا ما قد وقع فيه بعضهم)) وقالوا معنى قول من قال أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو فلان وفلان يعني من بقي بعده صلى الله عليه وسلم وقال جماعة من أهل العلم أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بدر والحديبية لم يستثنوا من مات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بقي بعده قال أبو عمر والذي عندي في هذا الباب مما يصح في التأمل والنظر وصحيح الاعتبار والأثر مما شهد له الكتاب والسنة والأصول المجتمع عليها أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ممن شهد العقبة ثم شهد بدرا والحديبية أفضل من كل من لم يدرك تلك المشاهد ولم يشهدها لأن هؤلاء من شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل وقال ((لن يدخل النار من شهد بدرا والحديبية)) وقال صلى الله عليه وسلم ((ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وحسبك بقول الله عز وجل (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) الحديد وقد مضى القول فيمن مات شهيدا في حياته ومن مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنه. وأما الباقون بعده فهذه الجملة من القول عامة فيهم مع ثناء الله (عز وجل) عليهم بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وأنهم رضوا عنه ورضي عنهم وحسبك بهذا. وأما التعيين فيهم وتفضيل بعضهم على بعض فهذا لا يصح في نظر ولا اعتبار ولا يحيط بذلك إلا الواحد القهار المطلع على النيات الحافظ للأعمال إلا من جاء فيه أثر صحيح بأنه في الجنة جاز أن يقال فيه ذلك اتباعا للأثر لا أنه أفضل من الذين شاركوه في مثل فضله ذلك ومن فضله رسول الله بخصلة وشهد له بها جاز أن يفضل بها في نفسه لا على غيره وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه بفضائل وخصائل من الخير كثيرة أثنى بها عليهم ووصف كل واحد منهم بخصلة منها أفرده بها ولم يشرك معه غيره فيها ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح تجب الحجة بمثله أنه قال فلان أفضل من فلان إذا كانا جميعا من أهل السوابق والفضائل وذلك من أدبه ومحاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم لئلا يومئ للمفضول بغيبة ويحطه في نفسه فيخرجه ويخزيه ولم يكن ذلك أيضا من دينه لأنه لم يعلم من غيب أمورهم وحقائق شأنهم إلا ما أطلعه الله عليه من ذلك وكان لا يتقدم بين يدي ربه ولو كان ذلك من دينه لأفشاه إن علمه ومن أخذ عليه الميثاق في تعليمه وتبليغه فلما لم يفعل علمنا أن قول القائل فلان أفضل من فلان باطل وليس بدين ولا شريعة وقد أجمع علماء المسلمين أن الله تعالى لا يسأل عباده يوم الحساب من أفضل عبادي ولا هل فلان أفضل من فلان ولا ذلك مما يسأل عنه أحد في القبر ولكن رسول الله قد مدح خصالا وحمد أوصافا من اهتدى إليها جاز الفضائل وبقدر ما فيه منها كان فضله في ظاهر أمره على من لم ينلها ومن قصر عنها لم يبلغ من الفضل منزلة من ناله هذا طريق التفضيل في الظاهر عند السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان قال أبو عمر ألا ترى الحكام إنما يقضون في التعديل والتجريح عند الشهادات بما يظهر ويغلب ولا يقطعون على غيب فيما به من ذلك يقضون ولم يكلفوا إلا العلم الظاهر والباطن إلى الله عز وجل وفي قول الله - عز وجل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة 134]. وقوله تعالى (فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي) [طه 51]. 52 ما يعاضد ما ذكرنا وبالله توفيقنا وروى سحنون عن بن القاسم في كتاب الديات من ((المدونة)). قال سمعت مالكا وسئل عن علي وعثمان فقال ((ما أدركت أحدا اقتدي به في دين يفضل أحدهما على صاحبه. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا عبد السلام بن صالح قال حدثنا عبد الله بن وهب قال سمعت مالكا يقول لا أفضل أحدا من العشرة ولا غيرهم على صاحبه وكان يقول هذا من علم الله الذي لا يعلمه غيره قال. وقال مالك أدركت شيوخنا بالمدينة وهذا رأيهم قال أبو عمر قول مالك هذا يدل على أنه لم يصح عنده حديث نافع عن بن عمر كنا نقاتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم يسكت فلا يفضل أحدا وكان أفهم الناس لنافع وأعلمهم بحديثه وكان نافع عنده أحد الذين يقتدى بهم في دينه فلو كان هذا الحديث عنده صحيحا من حديث نافع عن بن عمر ما قال قوله هذا وهو حديث شاذ لا يعضده شيء من الأصول وكل حديث لا أصل له لا حجة فيه وقد مالت العامة بجهلها إليه وهم مجمعون على خلافه بحيث لا يعلمون وقد نقضوه مع قولهم به لأنهم لا يختلفون في أن عليا في التفضيل رابع الأربعة وفي حديثهم عن بن عمر أنهم لا يفضلون أحدا بعد عثمان وأنهم يسكتون بعد الثلاثة عن تفضيل أحد على أحد فقد نقضوا ما أبرموا والله المستعان على جهل عامة هذا الزمان أخبرنا يحيى بن عبد الرحمن ومحمد بن زكريا وعبد الرحمن بن يحيى قالوا حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا مروان بن عبد الملك قال سمعت هارون بن إسحاق يقول سمعت يحيى بن معين يقول من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي سابقته وفضله فهو صاحب سنة ومن قال أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وهو عارف لعثمان سابقته وفضله فهو صاحب سنة فذكرت له هؤلاء الذين يقولون أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلم فيهم بكلام غليظ وكان يحيى بن سعيد يقول أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وذكر الزبير بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بن أنس قال ليس من أمر الناس الذين مضوا التفضيل بين الناس ذكر المغامي عن الزبير بن بكار عن إسماعيل عن مالك في كتابه ((فضائل مالك)) وقد عورض حديث بن عمر هذا بحديث عبد الله بن مسعود روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن علقمة عن عبد الله قال كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب وهذا عندي حيث فيه تصحيف ممن رواه عن شعبة هكذا وإنما المحفوظ فيه عن بن مسعود أنه قال كنا نتحدث أن أمضى أهل المدينة علي بن أبي طالب هكذا من القضاء لا من الفضل وقد عارضوا حديث عمر أيضا بقول حذيفة حدثنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا نفير بن مخلد قال حدثنا أبو بكر بن شيبة قال حدثنا أبو معاوية الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن بن مسعود أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة وهذا إخبار من حذيفة عن جلة الصحابة أنهم يعلمون أن بن مسعود أقربهم وسيلة عند الله وهذه شهادة له بالنهاية في الفضل وذلك خلاف قول بن عمر كنا نفاضل فنقول الحديث قال أبو عمر كل من رد حديث جابر وحديث أبي سعيد الخدري ((كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ولم يقبله لزمه أن يرد قول بن عمر (( كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ولا يقبله بل قول بن عمر أولى بالرد لأنه لا أصل له ولبيع أمهات الأولاد حظر من أهل السنة المجتمع عليها حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن قال حدثنا أبو الشعب محمد بن أحمد بن جاد الدولابي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بن أنس قال ليس من أمر الناس الذين مضوا أن يفاضلوا بين الناس. وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال سمعت مصعب بن عبد الله الوليدي يقول لم يكن أحد من مشايخنا الذين أدركت ببلدنا يفضل بين أحد من العشرة لا مالك ولا غيره وقال بن أبي خيثمة كان أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول لا أشهد لأحد بالجنة غير الأنبياء - عليهم السلام قال أبو عمر وقد روي عن مالك - رحمه الله - تقديم الشيخين أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - من رواية بن القاسم وغيره حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد المؤمن قال حدثنا أبو بشر الدولابي قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا أبو مصعب قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال سألت مالكا فيما بيني وبينه من تقدم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقدم أبا بكر وعمر قال ولم يزل على هذا قال أبو عمر جماعة أهل السنة وهم أهل الفقه والآثار على تقديم أبي بكر وعمر وتولي عثمان وعلي وجماعة أصحاب النبي عليه السلام وذكر محاسنهم ونشر فضائلهم والاستغفار لهم وهذا هو الحق الذي لا يجوز عندنا خلافه والحمد لله أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسيد قال حدثنا محمد بن مسرور قال حدثنا أحمد بن مغيث قال حدثنا الحسين بن حسن بن حرب المروزي قال أخبرنا بن المبارك قال حدثنا بن لهيعة قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير اليزني حدثه أن عقبة بن عامر الجهني حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع على المنبر فقال ((إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها)). قال عقبة فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا الإسناد عن بن المبارك قال حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى بقيع الغرقد فقال عليه السلام ((السلام عليكم يا أهل القبور لو تعلمون ما نجاكم الله منه ما هو كائن بعدكم)) ثم أقبل على أصحابه فقال ((هؤلاء خير منكم)). قالوا يا رسول الله إخواننا أسلمنا كما أسلموا وهاجروا كما هاجرنا وجاهدوا كما جاهدنا ومضوا على آجالهم وبقينا في آجالنا فبم تجعلهم خيرا منا فقال ((إن هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئا وأنا عليهم شهيد)) أو قال ((فأنا الشهيد عليهم وإنكم قد أكلتم من أجوركم ولا أدري ما تحدثون بعدي)). قال أبو عمر من معنى قوله صلى الله عليه وسلم ((لا أدري ما تحدثون بعدي)) ما ذكره البخاري قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن مطرف قال حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم)). قال فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال هكذا سمعت من سهل فقلت نعم فقال أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها فأقول إنهم مني ! ! فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي)). قال البخاري. وحدثنا سعيد بن أبي مريم عن نافع بن عمر قال حدثني بن أبي مليكة عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي فيقال هل تعرف ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) فكان بن أبي مليكة يقول اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا وروى الزبيدي وغيره عن الزهري عن محمد بن علي بن حسين عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري وروى يونس عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقد ذكرنا أحاديث الحوض وهي متواترة وتقصيناها بألفاظها وطرقها في باب خبيب بن عبد الرحمن من كتاب ((التمهيد)) والحمد لله. 957- وفي هذا الباب مالك عن يحيى بن سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقبر يحفر بالمدينة فأطلع رجل في القبر فقال بئس مضجع المؤمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بئس ما قلت)) فقال الرجل إني لم أرد هذا يا رسول الله إنما أردت القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا مثل للقتل في سبيل الله ما على الأرض بقعة هي أحب إلي أن يكون قبري بها منها)) ثلاث مرات يعني المدينة قال أبو عمر لا أحفظ لهذا الحديث سندا لكن معناه محفوظ في الأحاديث المرفوعة وفضائل الجهاد كثيرة وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشارك أصحابه بنفسه في جنازتهم وحفر قبورهم ومشاهدة ذلك معهم وذلك والله أعلم لما في حضور الجنائز ومشاهدة الدفن في القبر من الموعظة والاعتبار ورقة القلوب ليتأسى به وتكون سنة بعده وفيه أن القائل إذا قال قولا إنه يظهر قوله فيحمد على المحمود منه ويلام على ضده حتى يعلم مراده مما يحتمله كلامه فيحمل قوله على ما أراد مما يحتمل معناه دون ظاهره وفيه أن القتل في سبيل الله أفضل الفضائل أو من أفضل الفضائل إذا كان على سنته وما ينبغي فيه وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال عليكم بالحج فإنه عمل صالح والجهاد أفضل منه وقال بن مسعود لأتمتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من حجة في إثر حجة وقال بن عمر غزوة في سبيل الله أفضل من حجة قال أبو عمر هذا كله لمن أدى من الحج فرضه. وأما قوله (( ما على الأرض بقعة هي أحب إلي أن يكون قبري بها)) فإنه خرج قوله على البقعة التي فيها ذلك القبر المحفور وأظنها بالبقيع ولم يرد البقيع بعينه ولكنه أراد المدينة والله أعلم فأخبر أنها أحب البقاع إليه أن يكون قبره فيها وذلك لأنها موضع مهاجره الذي افترض عليه المقام فيه مع الذين آووه حين أخرج من وطنه ونصروه حتى ظهر دينه وكان قد عقد لهم حين بايعهم أنه إذا هاجر إليهم يقيم أبدا معهم فيكون محياه محياهم ومماته مماتهم فلزمه الوفاء لهم وكان من دعائه أن يحبب الله إليه وإلى أصحابه الذين هاجروا معه المدينة كحبهم لمكة أو أشد وكان يكره لأصحابه المهاجرين أن يموتوا في الأرض التي هاجروا منها وذلك بين في قصة سعد بن خولة. وأما تكريره هذا القول ثلاث مرات فكانت عادته صلى الله عليه وسلم يؤكده ويكرره ثلاثا. 958- مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب كان يقول اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك قال أبو عمر روى هذا الحديث معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك ووفاة في مدينة رسولك وهذا الحديث يدل على أن المقتول ظلما شهيد في غزاة أو في غير غزاة في بلاد الحرب وغيرها وقد أجاب الله تعالى دعوة عمر إذ قتله كافر ولم يجعل الله قتله بيد مسلم كما كان يتمناه لنفسه ويدل أيضا هذا الحديث على فضل المدينة لتمني عمر أن تكون وفاته بها كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب قبل هذا من قوله ((ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها منها)) ولم ينكر أحد من العلماء للمدينة فضلها على سائر البقاع إلا مكة فإن الآثار والعلماء اختلفوا في ذلك ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للمهاجرين من مكة معه سبيل إلى استيطان مكة لما تقدم ذكرنا له فمن هنا لم نجد لمكة ذكرا في حديث عمر والله أعلم وفي هذا الباب عند أكثر رواة الموطأ حديث جابر بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله)) فذكر المطعون والمبطون والغريق والحريق وصاحب ذات الجنب والذي يموت تحت الهدم والمرأة تموت بجمع وقد مضى القول في هذا المعنى من رواية يحيى في الموطأ ويدخل في هذا الباب لأنه مما تكون فيه الشهادة ويدخل فيه قول عمر الشهيد من احتسب نفسه على الله ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال ((مر عمر بقوم وهم يذكرون سرية هلكت فقال بعضهم هم شهداؤهم في الجنة وقال بعضهم لهم ما احتسبوا فقال عمر إن من الناس من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل حمية ومنهم من يقاتل إذا دهمه القتال ورهقه ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله فأولئك الشهداء وإن كل نفس تبعث على ما تموت عليه ولا تدري نفس ما يفعل بها إلا الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو العجفاء عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبة خطبها تقولون في مغازيكم قتل فلان شهيدا ولعله قد أوقر دابته غلولا لا تقولوا ذلك ولكن قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة وروى الثوري عن صالح عن أبي عاصم عن أبي هريرة قال إنما الشهيد الذي لو مات على فراشه دخل الجنة يعني الذي يموت على فراشه ولا ذنب له. 959- وذكر مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه ومروءته خلقه والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء فالجبان يفر عن أبيه وأمه والجريء يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحله والقتل حتف من الحتوف والشهيد من احتسب نفسه على الله قال أبو عمر أما قوله كرم المؤمن تقواه فمن قول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات. وأما قوله ودينه حسبه فإنه أراد أن الحسب الرفيع حقيقة الدين فيمن انتسب إلى أب ذي دين فهو الحسب وهذا أولى منه على من انتسب إلى أب كافر يفخر به كما جاء في الحديث المرفوع على ذكر الكفرة ينتسبون إلى حمم من حمم جهنم وأن من الجعل بأنفه خير منهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ((ثلاث لا تزال في أمتي النياحة علي الموتى والاستمطار بالأنواء والتفاخر بالأحساب خرج أيضا على حساب الذم ومثله ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أن أحساب أمتي التي ينتمون إليها المال هذا أيضا على وجه الذم لأنه قال صلى الله عليه وسلم لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ومن هذا قوله تنكح المرأة على حسبها وعلى مالها وعلى جمالها وعلى دينها فعليك بذات الدين. وأما قوله ومروءته خلقه فمن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق أو قال حسن الأخلاق فلا تكاد تجد حسن الخلق إلا ذا مروءة وصبر ومثله قوله وقد تذاكر المروءة عنده بعضهم فقال مروءتنا أن نعفو عمن ظلمنا ونعطي من حرمنا وهذا كله لا يتم إلا بحسن الخلق وقد روي أنه في حكمة داود المروءة الصلاح في الدين وإصلاح المعيشة وغنى النفس وصلة الرحم. وأما قوله والجرأة والجبن غرائز فلا تحتاج إلى تفسير ولا شرح ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق قال ذكر الشهداء عند عمر بن الخطاب فقال عمر للقوم ما ترون الشهداء فقال القوم يا أمير المؤمنين هم من يقتل في هذه المغازي فقال إن شهداءكم إذا لكثير إني أخبركم عن ذلك إن الشجاعة والجبن غرائز في الناس فالشجاع يقاتل من وراء أن لا يبالي أن لا يؤوب به إلى أهله والجبان فار عن حليلته ولكن الشهيد من احتسب نفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده قال. وحدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن حسان عن قائد العبيسي قال قال عمر الشجاعة والجبن غرائز في الرجال فيقاتل الشجاع عن من يعرف وعن من لا يعرف ويفر الجبان عن أبيه وأمه قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال قال عمر الشجاعة والجبن شيمة وخلق في الرجال فيقاتل الشجاع عن من لا يبالي أن لا يؤوب به إلى أهله ويفر الجبان عن أبيه وأمه قال. وحدثنا محمد بن بكر عن بن جريج عن عبد الكريم قال قالت عائشة من حس من نفسه جبنا فلا يغز قال. وحدثنا وكيع قال حدثنا همام عن أبي عمران الجوني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((للجبان أجران)). وأما قوله ((الشهيد من احتسب نفسه على الله)) فقد جاء عنه ما يفسر قوله هذا روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن شهاب قال أصيبت سرية على عهد عمر بن الخطاب فتكلم الناس فيها فقام عمر على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الرجل يقاتل حمية أو يقاتل رياء ويقاتل شجاعة والله تعالى أعلم بنياتهم وما قتلوا عليه وما أحد هو أعلم مما يفعل به إلا هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أبو عمر هذا أيضا يدل على ما تقدم بأن لا يقطع بفضل فاضل على مثله في ظاهر أمره وأن يسكت في مثل هذا. 960- ذكر فيه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب غسل وكفن وصلي عليه وكان شهيدا يC. 961- مالك أنه بلغه عن أهل العلم أنهم كانوا يقولون الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ولا يصلى على أحد منهم وإنهم يدفنون في الثياب التي قتلوا فيها قال مالك وتلك السنة فيمن قتل في المعترك فلم يدرك حتى مات قال. وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك فإنه يغسل ويصلى عليه كما عمل بعمر بن الخطاب قال أبو عمر اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم فذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي إلى أنهم لا يغسلون إذا ماتوا في المعترك وبه قال أحمد وإسحاق والطبري وحجتهم حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد ((ادفنوهم بدمائهم وزملوهم بثيابهم)) وهذا حديث اختلف فيه عن بن شهاب ورواه معمر عن الزهري عن بن أبي زهير عن جابر ورواه الليث بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج البخاري حديث الليث هذا عن بن شهاب بإسناده وخرجه أبو داود أيضا ورواه بن وهب عن أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بثيابهم وقد حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر قال ((رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فادرج في ثيابه كما هو)). قال ((ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر هذا حديث صحيح الإسناد. وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم (1) فهذا معنى قول مالك فيمن قتل في المعترك وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري يغسل الشهداء كلهم كما يغسل سائر المسلمين قال أحدهما إنما لم يغسل شهداء أحد للشغل الذي كان فيه ولكثرتهم وروي عن سعيد والحسن أنهما قالا لا يغسل الشهيد لأن كل ميت يجلب قال أبو عمر لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول سعيد بن المسيب والحسن البصري في غسل الشهداء إلا عبيد الله بن الحسن العنبري وليس ما قالوه من ذلك بشيء لأن الشيء الذي جعلوه علة ليس بعلة لأن كل واحد من القتلى كان له أولياء يشتغلون به دون غيره وبل العلة في ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الشهيد يأتي يوم القيامة وريح دمه كريح المسك واحتج بعض من ذهب من المتأخرين مذهب سعيد والحسن في ترك غسل الشهداء بقوله عليه السلام في شهداء أحد ((أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة)). قال وهذا يدل على خصوصهم وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم كما لا يشركهم في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر يلزمه أن يقول في المحرم الذي وقصته ناقته أن لا يفعل بغيره من المسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم به لأنه قال فيه ((يبعث يوم القيامة ملبيا)) وهو لا يقول بذلك. وأما الصلاة على الشهداء فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك واختلفت الآثار في ذلك أيضا فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أن لا يصلى عليهم بحديث الليث بن سعد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم (( أن شهداء أحد لم يغسلوا ولم يصل عليهم)) وبحديث أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس بن مالك ((أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا ولم يصل عليهم)) ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح عن بن وهب عن أسامة وقال معمر عن الزهري لم يصل على شهداء أحد وقال فقهاء الكوفة بن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وسليمان بن موسى والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وفقهاء أهل البصرة عبيد الله بن الحسن وغيره يصلى على الشهداء كلهم ولا تترك الصلاة عليهم ولا على غيرهم من المسلمين ورووا في ذلك آثارا كثيرة أكثرها مراسيل ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد وصلى على حمزة سبعين صلاة)) وروى بن عيينة وغيره عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة يوم أحد سبعين صلاة كلما صلى على رجل صلى عليه)). قال أبو عمر قد خالف الشعبي في ذلك غيره ذكر أبو داود قال حدثنا عباس العنبري قال حدثنا عثمان بن عمر قال حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمزة وقد مثل به فصلى عليه ولم يصل على أحد من الشهداء غيره وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن الزبير بن عدي عن عطاء بن أبي رباح قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر)) وأجمع العلماء على أن الشهيد في معترك الكفار إذا حمل حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل وشرب فإنه يغسل ويصلى عليه كما فعل بعمر وبعلي (رضوان الله عليهما) واختلفوا في غسل من قتل مظلوما كغسل الخوارج وقطاع السبيل وما أشبه ذلك ممن قتل مظلوما فقال مالك لا يغسل من قتله الكفار إلا أن يموت في المعترك فإن حمل من موضع مصرعه فعاش وأكل وشرب ثم مات غسل وصلي عليه. وأما من غسل في فتنة أو نائرة أو قتله اللصوص أو البغاة أو كان من اللصوص أو البغاة فقتل أو قتل قودا أو قتل نفسه فإن هؤلاء كلهم يغسلون ويصلى عليهم وبه قال الشافعي قال أبو حنيفة والشافعي كل من قتل مظلوما لم يغسل ولا أنه يصلى عليه وعلى كل شهيد وهو قول سائر أهل العراق ورووا من طرق كثيرة في عمار بن ياسر وزيد بن صوحان بأن كل واحد منهما قال لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما وادفنوني في ثيابي روي مثل ذلك عن حجر بن عدي بن الأدبر - رحمه الله قال أبو عمر قتل زيد بن صوحان يوم الجمل وقتل عمار بن ياسر بصفين. وأما حجر بن عدي فقتله معاوية صبرا بعث به إليه زياد بن أبي سفيان وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين أن حجر بن عدي قال لا تطلقوا عني حديدا ولا تغسلوا عني دما وادفنوني في ثيابي فإني ملاق معاوية بالجادة وإني مخاصمه وروى معمر عن أيوب عن بن سيرين قال أمر معاوية بقتل حجر بن عدي الكندي فقال حجر لا تنزعوا عني قيدا أو قال حديدا وكفنوني في ثيابي ودمي وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء قال ما رأيتهم يغسلون الشهيد ولا يحنطونه ولا يكفنونه قلت كيف يصلى عليه قلت كالذي يصلي على الذي ليس بشهيد قال. وأخبرنا بن جريج قال سألنا سليمان بن موسى كيف الصلاة على الشهيد عندكم قال كيف يصلى على غير الشهيد وسألناه عن دفن الشهيد قال أما إذا مات في المعركة فإنما ندفنه كما هو ولا نغسله ولا نكفنه ولا نحنطه قال. وأما إذا انقلبنا به وبه رمق فإنا نغسله ونكفنه ونحنطه وجدنا الناس على ذلك وكان من مضى عليه من الناس قبلنا قال. وأخبرنا معمر عن نافع عن أيوب قال كان عمر من خير الشهداء فغسل وكفن وصلي عليه لأنه عاش بعد طعنه قال. وأخبرنا الحسن بن عمارة عن يحيى بن الجزار قال غسل علي - رضي الله عنه - وكفن وصلي عليه قال أبو عمر من حجة من ذهب إلى هذا - وهو معنى قول مالك - أن السنة المجتمع عليها في موتى المسلمين أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم فكذلك حكم كل ميت وقتيل من المسلمين إلا أن يجتمعوا على شيء من ذلك فيكون خصوصا من الإجماع بإجماع وقد أجمعوا - إلا من شذ عنهم - بأن قتيل الكفار في المعترك إذا مات من وقته قبل أن يأكل ويشرب أنه لا يغسل ولا يصلى عليه فكان مستثنى من السنة المجتمع عليها بالسنة المجتمع عليها ومن عداهم فحكمه الغسل والصلاة وبالله التوفيق ومن حجة من جعل قتيل البغاة والخوارج واللصوص وكل من قتل ظلما إذا مات من وقته كقتيل الكفار في الحرب إذا مات في المعترك القياس على قتيل الكفار قالوا. وأما عمر وعلي فإنهما غسلا وصليا عليهما لأنهما عاشا وأكلا وشربا بعد أن أصيبا وبالله التوفيق. هكذا وقعت ترجمة هذا الباب عند يحيى ولم يذكر فيه إلا حديث يحيى بن سعيد في حمل عمر إلى الشام وإلى العراق وترجمة الباب عند القعنبي وبن بكير ((باب ما يكره من الرجعة في الشيء يجعل في سبيل الله)) وفيه عندهما حديث عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله من طريق زيد بن أسلم ومن طريق نافع ثم حدثنا يحيى بن سعيد هذا وقد ذكرنا حديث عمر في كتاب الزكاة وحديث هذا الباب لم يقع في رواية يحيى بن يحيى في الموطأ إلا في هذا الباب. 962- مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير يحمل الرجل إلى الشام على بعير ويحمل الرجلين إلى العراق على بعير فجاءه رجل من أهل العراق فقال احملني وسحيما فقال له عمر بن الخطاب نشدتك الله ! أسحيم زق قال له نعم قال أبو عمر الحمل على الإبل والخيل سنة مسنونة من مال الله ومن مال من شاء أن يتطوع في سبيل الله قال الله عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) [التوبة 92]. وروى أبو مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل فقال يا رسول الله ! إنه أبدع بي فاحملني فقال له ائت فلانا فاستحمله فأتاه فحمله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الدال على الخير كفاعله وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق في صدر كتاب العلم ومن حديث أبي موسى الأشعري أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين يستحملونه فوجدوه غضبان فقال له ((والله لا أحملكم)) ثم حملهم على الإبل قال ( (ولا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)) وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سعيد عن قتادة أن عثمان حمل في جيش العسرة على ألف بعير إلا سبعين وروى سفيان بن عيينة عن بن جرير عن عطاء عن صفوان بن يعلي بن أمية عن أبيه قال غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فحملت فيها على بكر فكان أوثق عملي في نفسي. وأما حمل عمر - رضي الله عنه - الرجل من أهل الشام على بعير والرجلان من أهل العراق على بعير فذلك عندي على حسب ما أداه اجتهاده إليه عسى أن يكون ذلك في عام دون عام لما رآه من أهل العراق وأهل الشام فاجتهد في ذلك وما أحسب ذلك كان إلا من العطاء لأهل الديوان بعينهم عام غزوا. وأما فراسته في الذي ألغز له وأراد التحيل عليه ليحمل على بعير وهو عراقي من بين سائر أهل العراق ففطن له فلما ناشده الله صدقه أنه عنى بقوله ((سحيما)) زقا كان في رحله فذلك معروف من ذكاء عمر وفطانته وكان يتفق ذلك كثيرا ألا ترى إلى قوله للذي قال له ما اسمك قال جمرة قال بن من قال بن شهاب قال ممن قال من الحرقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال فأيها قال بذات لظى قال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر ذكره مالك أيضا عن يحيى بن يحيى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق حسان أنه قال ((سيكون في أمتي محدثون فإن يكن فعمر)) وبالله التوفيق. 963- ذكر فيه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فأطعمته وجلست تفلي في رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله قال ((ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر (2) ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة)) (يشك إسحاق) قالت فقلت له يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك قالت فقلت له يا رسول الله ! ما يضحكك قال (( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة)) كما قال في الأولى قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال ((أنت من الأولين قال فركبت البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت قال أبو عمر قال بن وهب أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة فلذلك كان يقيل عندها وينام في حجرها وتفلي رأسه قال أبو عمر لولا أنها كانت منه ذات محرم ما زارها ولا قام عندها والله أعلم وقد روي عنه عليه السلام من حديث عمر وبن عباس لا يخلون رجل بامرأة إلا أن تكون منه ذات محرم)) على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم ليس كغيره ولا يقاس به سواه وفي هذا الحديث إباحة أكل ما قدمته المرأة إلى ضيفها في بيتها من مالها ومال زوجها لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل وفيه دليل على أن الوكيل والمؤتمن إذا علم أن صاحب المال يسر بما يفعله في ماله جاز له فعل ذلك ومعلوم أن عبادة بن الصامت كان يسره أن يبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فلذلك أذنت أم حرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت زوجها عبادة وأطعمته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا يحل لامرأة أن تأذن لرجل في بيتها وزوجها غائب كاره)) وإسناده في ((التمهيد)) وقد اختلف العلماء في عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه واختلفت فيه الآثار المرفوعة منها ما رواه بن جريج عن بن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ! ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي قال ((ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك)) وروى الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ولزوجها أجر بما اكتسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا)). وأما الأثر المخالف لغيره فهذه الأحاديث أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ((إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) وفيه ((لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بإذن زوجها)) قيل يا رسول الله ! ولا الطعام قال ((ذلك أفضل أموالنا)) ومن أجاز للصديق الأكل من مال صديقه بغير إذنه وتأول قول الله عز وجل (أو صديقكم) [النور 61]. فإنما أباح منه ما لا يتشاح الناس فيه وما تسخو النفوس به للإخوان في الأغلب. وأما ((ثبج البحر)) فهو ظهر البحر وكذلك روى هذا الحديث يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك عن أم حرام قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا في بيتي استيقظ وهو يضحك فقلت مم تضحك قال ((عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر كالملوك على الأسرة)) الحديث. وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم عندما استيقظ فإنما ذلك سرورا منه مما يدخله الله على أمته من الأجر بأعمال البر وإنما رآهم على الأسرة في الجنة ورؤياه ورؤيا الأنبياء وحي ويشهد لذلك قول الله تعالى في أهل الجنة (على الأرائك متكئون) [يس 56]. وقوله ((أو مثل الملوك على الأسرة)) شك من المحدث وقد رواه يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس عن أم حرام فقال فيه مثل الملوك على الأسرة من غير شك وهذا الخبر إنما ورد تنبيها على فضل الغزو في البحر وفيه إباحة النساء للجهاد وقد قالت أم عطية كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة اختلف الفقهاء في الإسهام للنساء من الغنيمة فقال بن وهب سألت مالكا عن النساء هل يحذين من المغانم في الغزو قال ما علمت ذلك. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي لا سهم لامرأة ويرضخ لها وقال الأوزاعي يسهم لها وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر قال الأوزاعي وأخذ بذلك المسلمون عندنا قال أبو عمر أحسن شيء في هذا الباب ما كتب به بن عباس إلى نجدة الخارجي أن النساء كن يحضرن فيداوين المرضى ويحذين من الغنيمة ولم يضرب فيه بسهم وفيه إباحة ركوب البحر للنساء وكان مالك يكره للمرأة الحج في البحر وهو في الجهاد كذلك أكره قال أبو عمر إنما كره ذلك مالك لأن المرأة لا تكاد تغض بصرها عن الراكبين فيه عن الملاحين وغيرهم وهم لا يستترون في كثير من الأوقات وكذلك لا تقدر كل امرأة عند حاجة الإنسان على الاستتار في المركب في الرجال ونظرها إلى عورات الرجال ونظرهم إليها حرام فلم ير استباحة فضيلة بمدافعة ما حرم الله تعالى وكانت أم حرام مع زوجها وكان الناس خلاف ما هم عليه اليوم والله أعلم وفيه دليل على جواز ركوب البحر للحج لأنه إذا ركب للجهاد فركوبه للحج أولى إذا كان في أداء فريضة الحج ذكر مالك أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر طول حياته فلما مات استأذن معاوية عثمان في ركوبه فأذن له فلم يزل حتى كان زمان عمر بن عبد العزيز فمنع الناس من ركوبه في أيامه ثم ركب بعد إلى الآن هذا لما كان من العمرين - رحمة الله عليهما - في التجارة وطلب الدنيا والاستعداد من المال والتكاثر معرضين عن الآخرة وعن جهاد الغزو في البحر فأما ما كان في أداء فريضة الله فلا قد وردت السنة بإباحة ركوب البحر للجهاد في حديث أنس وغيره وهي الحجة وفيها الأسوة واتفق العلماء أن البحر لا يجوز لأحد ركوبه في حين ارتجاجه ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن نافع عن بن عمر قال ((لا يسلني الله عن جيش ركبوا البحر أبدا)) يعني التغرير وفيه التحري بالإتيان بألفاظ النبي عليه السلام وقد ذهب إلى هذا جماعة ورخص آخرون في الإتيان بالمعاني وإن خالفوا في الألفاظ وفيه أن الجهاد تحت راية كل إمام عادل أو جائر ماض إلى يوم القيامة لأنه قد رأى الآخرين ملوكا على الأسرة كما رأى الأولين ولا نهاية للآخرين إلى قيام الساعة قال الله عز وجل (ثلة من الأولين وثلة من الأخرين) [الواقعة 39]. 40 وهذا على الآية وفيه فضل لمعاوية إذ جعل من غزا تحت رايته من الأولين وإنما قلنا في الحديث دليل على ركوب البحر للجهاد وغيره للرجال والنساء لاستيقاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فرحا بذلك فدل على جوازه وإباحته وفضله وجعلنا المباح فيما ركب فيه البحر قياسا على الغزو فيه ويحتمل بدليل هذا الحديث أن يكون الموت في سبيل الله والقتل سواء في الفضل لأن أم حرام لم تقتل وإنما ماتت من صرعة دابتها وقد ذكرنا في ((التمهيد)) الآثار الشواهد في هذا المعنى واختلافها في ذلك فمنها ما ذكره بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع قال حدثنا المسعودي عن عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عمرو قال قال رجل يا رسول الله ! أي الجهاد أفضل قال ((من عقر جواده وأريق دمه)) وذكر أبو داود قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا مروان قال حدثنا هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين)) والآثار في الوجهين جميعا كثيرة قد ذكرنا كثيرا منها في ((التمهيد)) وقد سوى الله تعالى في كتابه بين المقتول والميت في سبيل الله (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) [الحج 58]. فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية ولم يختلف أهل السير أنها غزاة معاوية هذه وقد غزا معه (( عبادة وزوجته ((أم حرام)) كانت في خلافة عثمان لا في زمان معاوية قال الزبير بن أبي بكر ركب معاوية البحر غازيا بالمسلمين في خلافة عثمان لا في أيام معاوية قال الزبير بن أبي بكر ركب معاوية البحر غازيا بالمسلمين في خلافة عثمان إلى قبرص ومعه أم حرام زوج عبادة مع زوجها عبادة فركبت بغلتها حين خرجت من السفينة فصرعت فماتت وذكر خليفة عن بن الكلبي قال في سنة ثمان وعشرين غزا معاوية بن أبي سفيان في البحر ومعه امرأته فاختة بنت قرظة من بني عبد مناف ومعه عبادة بن الصامت وامرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية فأتى قبرص فتوفيت أم حرام وقبرها في هذا الباب. 964- مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لولا أن اشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلف عن سرية تخرج في سبيل الله ولكني لا أجد ما أحملهم عليه ولا يجدون ما يتحملون عليه فيخرجون ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي فوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل)). قال أبو عمر في هذا الحديث دليل على أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد في خاصته ولو كان فرضا معينا ما تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ولا أباح لغيره التخلف عنه ولو شق على أمته إذا كانوا يطيقونه والجهاد عندنا بالغزوات والسرايا إلى أرض العدو فرض على الكفاية فإذا قام بذلك من فيه كفاية ونكاية للعدو سقط عن المتخلفين فإذا أظل العدو بلدة مقاتلا لها تعين الفرض على كل أحد حينئذ في خاصته على قدر طاقته خفيفا وثقيلا شابا وشيخا حتى يكون فيمن يكاثر العدو كفاية بمواقعتهم فإن لم يكن وجب على كل من سبقهم من المسلمين وجب عليهم عونهم والنفير إليهم ومقاتلة عدوهم معهم فإذا كان في ذلك ما يقوم بالعدو في المدافعة كان ما زاد على ذلك فرضا على الكفاية على ما قدمنا فضيلة ونافلة والدليل على ذلك قوله عز وجل (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) [النساء 95]. ثم قال (وكلا وعد الله الحسنى ) [النساء 95]. وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمنى من عمل الخير والصبر عليه ما يعلم أنه لا يعطاه وذلك من حرصه عليه السلام على الوصول إلى أصل فضائل الأعمال وقد يعطى المرء بنيته وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عتيك ((إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته)) وقال صلى الله عليه وسلم ((نية المؤمن خير من عمله)) يريد صلى الله عليه وسلم نية المؤمن خير من عمله بلا نية وفي هذا الباب. 965- مالك عن يحيى بن سعيد قال لما كان يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من يأتيني بخبر سعد بن الربيع الأنصاري)) فقال رجل أنا يا رسول الله فذهب الرجل يطوف بين القتلى فقال له سعد بن الربيع ما شأنك فقال له الرجل بعثني إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك قال فاذهب إليه فاقرأه مني السلام. وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي. وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد منهم حي وهذا الخبر ذكره محمد بن إسحاق في ((السير)) بنحو ما ذكره مالك وقال حدثني بخبر سعد بن الربيع هذا محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري المازني أحد بني النجار قال أبو عمر هذا يدل على أن الخبر مشتهر مستفيض بالمدينة عند علمائها وقد روى جابر بن عبد الله في قصة ابنتي سعد بن الربيع ما دل على أن البيان في فريضة الأنثيين أن لهما من ميراث أبيهما الثلثين كما لمن فوقهما من البنات وهو خبر حسن قد ذكرنا إسناده في ((التمهيد)) عن جابر أن امرأة من الأنصار أتت النبي عليه السلام بابنتي سعد بن الربيع فقالت يا رسول الله ! سعد بن الربيع قتل يوم أحد شهيدا فأخذ عمهما كل شيء من تركته ولم يدع لهما من مال أبيهما قليلا ولا كثيرا والله ما لهما مال ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( (سيقضي الله في ذلك ما شاء)) فنزلت (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) [النساء 11]. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما فقال ((أعط هاتين الجاريتين مما ترك أبوهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك)). قال أبو عمر هذه سنة مجتمع عليها لا خلاف فيها والحمد لله ولا أعلم أحدا من فقهاء المسلمين من التابعين ومن بعدهم قال بما روي عن بن عباس في ذلك ولا يصح عنهم ما روي عنه في ذلك والله أعلم وكان مما في هذا الخبر سبب البيان الوارد بها وسعد بن الربيع كان من النقباء شهد بدرا استشهد يوم أحد وقد ذكرناه ونسبناه وأتينا بأطراف الأخبار عنه في كتاب الصحابة وفي هذا الباب أيضا. 966- عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الجهاد وذكر الجنة ورجل من الأنصار يأكل تمرات في يده فقال إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن فرمى ما في يده فحمل بسيفه فقاتل حتى قتل قال أبو عمر هذا الحديث محفوظ معناه من حديث بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله فذكر معناه حديث حدثناه عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن أبي عمر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله يقول قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد يا رسول الله ! إن قتلت أين أنا قال (( أنت في الجنة)) فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل قال أبو عمر هذا الرجل عمير بن الحمام الأنصاري السلمي فيما ذكر بن إسحاق قال بن إسحاق ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس يعني يوم بدر فحرضهم على القتال ونقل كل امرئ ما أصاب قال ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة)). قال عمير بن الحمام أحد بني سلمة - وفي يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد *** إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد *** وكل زاد عرضة للنفاد (غير التقى والبر والرشاد) قال أبو عمر ما أظن الرجل الذي في خبر جابر هو عمير بن الحمام لأن ذلك يوم أحد وحديث عمير يوم بدر. وأما مالك لم يذكر في حديثه يوما قال أبو عمر ليس في حديث يحيى بن سعيد ولا حديث جابر ما يدل على أن عمير بن الحمام حمل وحده على كتيبة الكفار ولو فعل ذلك كان حسنا وكانت مع ذلك له شهادة حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن أبي عدي عن محمد بن سيرين قال جاءت كتيبة من قبل المشرق من كتائب الكفار فلقيها رجل من الأنصار فحمل عليهم فخرق الصف حتى خرج ثم كر راجعا حتى رجع صنع ذلك مرتين أو ثلاثا فإذا سعد بن هشام فذكر ذلك لأبي هريرة فتلا (ومن الناس من يشرى نفسه) [البقرة 207]. وقد روى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم أن رجلا قتل العدو خاله فقال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إن ناسا يزعمون أن خالي ألقى بنفسه إلى التهلكة فقال عمر بل هو من الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة وقد روى عن عمر بن الخطاب خلاف هذا ذكره بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني قال سمعت المعرور بن سويد يقول إن عمر بن الخطاب ذكر له رجل قتل بين يدي صف فقال عمر لأن أموت على فراشي أحب إلي أن أقتل بين يدي صف يعني أن يستقبل وذكره بن عيينة أيضا عن الحسن بن عمارة عن واصل الأحدب عن المعرور عن عمر مثله وزاد وليس خروجه عن مكانه عظيم الغنى عن أصحابه قال سفيان وقد يكون خارجا من الصف وهو شاذ لمكانه وروى معمر عن الحسن قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقاتل فقال يا رسول الله ! أحمل عليهم فقال أتريد أن تقتلهم قال أبو عمر هذا حديث ليس إسناده بالقوي وأحسن ما قيل في معنى قول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة 195]. ذلك في ترك الثقة في سبيل الله والله أعلم ذكر أبو بكر قال حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن أبي صالح عن بن عباس (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) [البقرة 195]. أنفق في سبيل الله ولو بمشقص قال. وحدثنا وكيع عن سفيان عن عباس بن الأسود عن مجاهد قال إذا لقيت العدو فاثبت فإنما نزلت هذه الآية في النفقة وذكر مالك في هذا الباب. 967- عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل أنه قال الغزو غزوان فغزو تنفق فيه الكريمة ويياسر فيه الشريك ويطاع فيه ذو الأمر ويجتنب فيه الفساد فذلك الغزو خير كله وغزو لا تنفق فيه الكريمة ولا يياسر فيه الشريك ولا يطاع فيه ذو الأمر ولا يجتنب فيه الفساد ذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافا قال أبو عمر هذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد حسن أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال. وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حيوه بن شريح الحضرمي قال أخبرنا بقية قال حدثنا بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن أبي بحرية عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله. وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف)). قال أبو عمر قوله ((ينفق الكريمة)) فإنه أراد ما يكرم عليك من مالك مما يقيك الله فيه شح نفسك ولقد أحسن القائل: وقد تخرج الحاجات بأم مالك *** كرائم من ذب بهن ضنين وأما ((مياسرة الشريك)) وهو هنا الرفيق فقلنا الخلاف ما يريد إنفاقه في سبيل الله ووجده إن احتاج وترك. وأما طاعة الإمام فواجبة في كل ما يأمر به إلا أن تكون معصية بينة لا شك فيها ولا ينبغي أن يبارز العدو ولا يخرج في سرية عن عسكره إلا بإذنه. وأما ((اجتناب الفساد)) فكلمة جامعة لكل حرام وباطل والله لا يحب الفساد.
|